الأسد والثور، الجزء الثاني
![]() |
https://www.mr-alihamoud.com/2022/11/The-Lion-and-the-Bull-Part-Two.html |
السمكات الثلاث:
ومن أمثال ذلك قصة السمكات الثلاث:
قال الأسد: وكيف كان ذلك؟
قال دمنة: زعموا أن بِركة ماء كان فيها ثلاث سمكاتٍ: فطنة وأفطن منها وعاجزةٌ؛ وكانت تلك البركة لا يكاد يقربها أحدٌ وبقربها نهر جارٍ.
فمر بذلك النهر صيادان؛ فأبصرا الغدير، فتواعدا أن يرجعا إليه بشباكهما فيصيدا ما فيه من السمك.
فسمع السمكات قولهما: فأما أفطنهن: لما سمعت قولهما، خافت؛ فبذلت جهدها وأخذت تقفز وتقفز حتى خرجت من المكان الذي يدخل فيه الماء من النهر إلى البركة.
وأما الفطنة: فإنها مكثت مكانها حتى جاء الصيادان؛ فلما رأتهما، وعرفت ما يريدان، ذهبت لتخرج من حيث يدخل الماء؛ فإذا بهما قد سدا ذلك المكان فحينئذٍ قالت: فرطت، وهذه عاقبة التفريط؛ فكيف الحيلة على هذه الحال.
وقلما تنجع حيلة العجلة والإرهاق ، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي، ولا ييأس على حالٍ، ولا يدع الرأي والجهد. ثم إنها احتالت فادعت أنها ميتة؛ فطفت على وجه الماء منقلبة على ظهرها تارةً، وتارةً على بطنها؛ فأخذها الصيادان فوضعاها على الأرض بين النهر والبركة؛ فقفزت إلى النهر فنجت.
وأما العاجزة: فما تزلْ في مكانها، لاتفعل شيئا ولاتحاول أن تنقذ نفسها حتى اصطادوها.
قال الأسد: قد فهمت ذلك؛ ولا أظن الثور يغشني ويرجو لي الغوائل، وكيف يفعل ولم ير مني سوءاً قطُّ؟ ولم أدع خيرًا إلا فعلته معه؟ ولا أمنيةً إلا بلغته إياها؟
قال دمنة: إن اللئيم لا يزال نافعًا ناصحًا حتى يرفع إلى المنزلة التي ليس لها بأهل؛ فإذا بلغها التمس ما فوقها؛ ولا سيما أهل الخيانة والفجور،
فإن اللئيم الفاجر لا يخدم السلطان ولا ينصح له إلا من فرقٍ. فإذا استغنى وذهبت الهيبة عاد إلى جوهره؛ كذنب الكلب الذي يربط ليستقيم فلا يزال مستوياً ما دام مربوطًا؛ فإذا حل انحنى واعوج كما كان.
واعلم أيها الملك أنه من لم يقبل من نُصائِحه والكف عما يضره ويشينه. وقد قيل: أن الرجل إذا أحس من صاحبه بعداوةٍ يريده بها؛ لا يطمئن إليه.
قال له الأسد: لقد أغلظت في القول؛ وقول الناصح مقبولٌ محمولٌ. وإن كان شتربة معاديًا لي، كما تقول، فإنه لا يستطيع لي ضرًا؛ وكيف يقدر على ذلك وهو آكل عشب وأنا آكل لحم؟ وإنما هو لي طعام، وليس علي منه مخافةٌ. ثم ليس إلى الغدر به سبيل بعد الأمان الذي جعلته له، وبعد إكرامي له، وثنائي عليه. وإن غيرت ما كان مني وبدلته. سفهت رأيي وجهلت نفسي وغدرت بذمتي.
قال دمنة: لا يغرنك قولك: هو لي طعام وليس علي منه مخافةٌ.
فإن شتربة إن لم يستطعك بنفسه احتال لك من قبل غيره.
ويقال: إن استضافك ضيفٌ ساعةً من نهارٍ، وأنت لا تعرف أخلاقه فلا تأمنه على نفسك؛ ولا تأمن أن يصلك منه أو بسببه ما أصاب القملة من البرغوث.
قال الأسد: وكيف كان ذلك؟
القملة والبرغوث:
قال دمنة: زعموا أن قملة لزمت فراش رجلٍ من الأغنياء دهرًا فكانت تصيب من دمه وهو نائمٌ لا يشعر، ووتعيش في حرية ورغد؛ فمكث كذلك حينًا حتى استضافها ليلةً من الليالي برغوثٌ.
فقالت له: بت الليلة عندنا في دمٍ طيبٍ وفراشٍ لينٍ؛ فأقام البرغوث عندها حتى إذا أوى الرجل إلى فراشه وثب عليه البرغوث فلدغه لدغةً أيقظته؛ وأطارت النوم عنه؛ فقام الرجل وأمر أن يفتش فراشه؛ فنظر فلم ير إلا القملة؛ فقتلها وفر البرغوث.
وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن صاحب الشر بسببه.
الأسد يخاف من شتربة:
وإن كنت لا تخاف من شتربة، فخف غيره من جندك الذين قد حملهم عليك وعلى عداوتك. فوقع في نفس الأسد كلام دمنة.
فقال: فما الذي ترى إذاً؟ وبماذا تشير؟
قال دمنة: العدو الذي نخافه، دواؤه قتله.
قال الأسد: لقد تركتني أكره مجاورة شتربة إياي؛ وأنا مرسلٌ إليه، وذاكرًا له ما وقع في نفسي منه؛ ثم آمره باللحاق حيث أحب.
فكره دمنة ذلك، وعلم أن الأسد متى كلم شتربة في ذلك وسمع منه جوابًا عرف باطل ما أتى به، واطلع على غدره وكذبه؛ ولم يخف عليه أمره.
فقال للأسد: لاأرى الرأي في ذلك؛ فإن شتربة متى شعر بهذا الأمر، خفت أن يعاجل الملك بالمكيدة. وهو إن قاتلك قاتلك مستعدًا؛ وإن فارقك، فارقك فراقًا يليك منه النقص، ويلزمك منه العار.
قال الأسد: إن الملك إذا عاقب أحدًا عن ظنةٍ ظنًا من غير تيقن بذنبه، فهو ظالم.
قال دمنة: أما إذا كان هذا رأي الملك، فلا يدخلن عليك شتربة إلا وأنت مستعدٌ له؛ وإياك أن تصيبك منه غرةٌ أو غفلةٌ.
قال الأسد: سأكون منه على حذرٍ؛ وإن رأيت منه ما يدل على مكره علمت أن أمره مريب.
فلما فرغ دمنة من حمل الأسد على الريب في الثور، وعرف أنه قد نجح ما أراد ، وأن الأسد سيحذر الثور، ويستعد له، أراد أن يأتي الثور ليغريه بالأسد؛ وأحب أن يكون ذلك من قبل الأسد مخافة أن يبلغه ذلك فيتأذى به.
فقال: أيها الملك ألا آتي بشتربة فأسمع كلامه؛ لعلي أطلع على سره، فأطلع الملك على ذلك، وعلى ما يظهر لي منه؟ فأذن له الأسد في ذلك.
فانطلق فدخل على شتربة كالكئيب الحزين. فلما رآه الثور رحب به.
وقال: ما كان سبب انقطاعك عني؟ فإني لم أرك منذ أيامٍ؛ ولعلك في سلامةٍ!
قال دمنة: من ذا الذي طلب من اللئام فلم يحرم؟ ومن ذا الذي خالط الأشرار فسلم؟ ومن ذا الذي صحب السلطان فدام له منه الأمن والإحسان؟
قال شتربة: إني أسمع منك كلامًا يدل على أنه قد رابك من الأسد ريبٌ، وهالك منه أمرٌ.
قال دمنة: أجل، لقد رابني منه ذلك، وليس هو في أمر نفسي.
قال شتربة: ففي نفس من رابك؟
قال دمنة: قد تعلم ما بيني وبينك، وتعلم حقك علي، وما كنت جعلت لك من العهد والميثاق أيام أرسلني الأسد إليك، فلم أجد لك بدًا من حفظك وإطلاعك على ما اطلعت عليه مما أخاف عليك منه.
قال شتربة: وما الذي بلغك؟
قال دمنة: حدثني الخبير الصدوق الذي لا مرية في قوله أن الأسد قال لبعض أصحابه وجلسائه: قد أعجبني سمن الثور؛ وليس لي إلى حياته حاجةٌ، فأنا آكله ومطعم أصحابي من لحمه.
فلما بلغني هذا القول، وعرفت غدره ونقض عهده؛ أقبلت إليك لأقضي حقك؛ وتحتال أنت لأمرك.
فلما سمع شتربة كلام دمنة، وتذكر ما كان من دمنة جعل له من العهد والميثاق، وفكر في أمر الأسد، ظن أن دمنة قد صَدَقَهُ ونصح له؛ ورأى أن الأمر شبيهٌ بما قال دمنة. فأهمه ذلك.
وقال: ما كان للأسد أن يغدر بي ولم آت إليه ذنبًا، ولا إلى أحد من جنده، منذ صحبته؛ ولا أظن الأسد إلا قد حمل علي بالكذب وشبه عليه أمري، فإن الأسد قد صحبه قوم سوءٍ؛ وجرَّب منهم الكذب وأمورًا هي تصدق عنده ما بلغه من غيرهم.
فإن كان الأسد بلغه عني كذبٌ فصدقه علي وسمعه في، فما جرى على غيري يجري علي. وإن كان لم يبلغه شيءٌ، وأراد السوء بي من غير علةٍ، فإن ذلك لمن أعجب الأمور.
وقد كان يقال: إن من العجب أن يطلب الرجل رضا صاحبه ولا يرضى. وأعجب من ذلك أن يلتمس رضاه فيسخط.
قد نظرت: فإن مصاحبة السلطان خطرةٌ، وإن صوحب بالسلامة والثقة والمودة وحسن الصحبة. وإن لم يكن هذا، فبعض ما أوتيت من الفضل قد جعل لي فيه الهلاك.
قال دمنة: إن إرادة الأسد بك ليست من تحميل الأشرار ولا سكرة السلطان ولا غير ذلك، ولكنها الغدر والفجور منه، فإنه فاجرٌ خوانٌ غدارٌ، لطعامه حلاوةٌ وآخره سمٌ مميتٌ.
قال شتربة: فأراني قد استلذذت الحلاوة إذ ذقتها: وقد انتهيت إلى آخرها الذي هو الموت؛ ولولا الحين ما كان مقامي عند الأسد، وهو آكل لحمٍ وأنا آكل عشبٍ، ومن لم يرض من الدنيا بالكفاف الذي يغنيه وطمحت عينه إلى ما سوى ذلك، ولم يتخوف من عاقبتها، كان كالذباب الذي لا يرضى بالشجرة والرياحين، ولا يقنعه ذلك، حتى يطلب الماء الذي يسيل من أذن الفيل، فيضربه الفيل بآذانه فيهلكه.
قال دمنة: دع عنك هذا الكلام واحتل لنفسك.
قال شتربة: بأي شيءٍ أحتال لنفسي، إذا أراد الأسد أكلي، مع ما عرفتني به من رأي الأسد وسوء أخلاقه؟ واعلم أنه لم يرد بي إلا خيرًا، ثم أراد أصحابه بمكرهم وفجورهم هلاكي لقدروا على ذلك.
قال دمنة: فماذا تريد أن تصنع الآن؟
قال شتربة: ما أرى إلا الاجتهاد والمجاهدة بالقتال: فإنه ليس للمصلي في صلاته، ولا للمتصدق في صدقته، ولا للورع في ورعه من الأجر ما للمجاهد عن نفسه، إذا كانت مجاهدته على الحق.
قال دمنة: لا ينبغي لأحد أن يخاطر بنفسه، وهو يستطيع غير ذلك، ولكن ذا الرأي جاعل القتال آخر الحيل؛ ولتعلم أن القتال مع الأسد لا أراه لك رأيًا.
قال شتربة: فما أنا بمقاتل الأسد، ولا ناصب له العداوة سرًا ولا علانيةً، حتى يبدو لي منه ما أتخوف فأغالبه.
فكره دمنة قوله، وعلم أن الأسد إن لم ير من العلامات التي ذكرها له اتهمه وأساء به الظن.
فقال دمنة لشتربة: اذهب إلى الأسد فستعرف حين ينظر إليك ما يريد منك.
قال شتربة: وكيف أعرف ذلك؟
قال دمنة: سترى الأسد حين تدخل عليه جالسًا على ذيله، رافعًا صدره إليك، مادًا بصره نحوك، قد رفع أذنيه وفتح فاه، واستوى للوثبة. قال شتربة: إن رأيت هذه العلامات من الأسد عرفت صدقك في قولك.
ثم إن دمنة لما فرغ من حمل الأسد على الثور، والثور على الأسد توجه إلى كليلة. فلما التقيا.
قال كليلة: إلام انتهى عملك الذي كنت فيه؟
قال دمنة: قريبٌ من الفراغ على ما أحب وتحب.
ثم إن كليلة ودمنة انطلقا جميعًا ليحضرا قتال الأسد والثور، وينظرا ما يجري بينهما، ويعاينا ما يؤول إليه أمرهما.
وجاء شتربة، فدخل على الأسد، فرآه مهيئًا كما وصفه له دمنة.
فقال: ما صاحب السلطان إلا كصاحب الحية التي في مبيته ومقيله، فلا يدري متى تهيج به.
ثم إن الأسد نظر إلى الثور فرأى الدلالات التي ذكرها له دمنة؛ فلم يشك أنه جاء لقتاله؛ فواثبه، ونشأ بينهما الحرب، واشتد قتال الثور والأسد، وطال، وسالت بينهما الدماء.
فلما رأى كليلة أن الأسد قد بلغ منه ما قد بلغ؛ قال لدمنة: أيها الفسل ما أنكر جهلتك وأسوأ عاقبتك في تدبيرك!
قال دمنة: وما ذاك؟
قال كليلة: جرح الأسد وهلك الثور، وإني لأخاف عليك عاقبة بغيك هذا، فإنك قد أحسنت القول ولم تحسن العمل.
أين معاهدتك إياي أنك لا تضر بالأسد في تدبيرك؟ وقد قيل: لا خير في القول إلا مع العمل، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في الحياة إلا مع الصحة، ولا في الأمن إلا مع السرور.
واعلم أن الأدب يذهب عن العاقل الطيش، ويزيد الأحمق طيشًا.
فإن يقال: إن السلطان إذا كان صالحاً، ووزراؤه وزراء سوءٍ، منعوا خيره، فلا يقدر أحدٌ أن يدنو منه.
فانتهى كليلة من كلامه إلى هذا المكان وقد فرغ الأسد من الثور، ثم فكر في قتله بعد أن قتله وذهب عنه الغضب.
وقال: لقد فجعني شتربة بنفسه؛ وقد كان ذا عقلٍ ورأيٍ وخلقٍ كريمٍ، ولا أدري لعله كان بريًئً أو مكذوبا عليه؛ فحزن وندم على ما كان منه، وتبين ذلك في وجهه.
وبصر به دمنة، فترك محاورة كليلة.
وتقدم إلى الأسد فقال له: ليهنئك الظفر إذ أهلك الله أعداءك. فماذا يحزنك أيها الملك؟
قال: أنا حزينٌ على عقل شتربة ورأيه وأدبه؟
قال له دمنة: لا ترحمه أيها الملك: فإن العاقل لا يرحم من يخافه. وإن الرجل الحازم ربما أبغض الرجل وكرهه، ثم قربه وأدناه؛ لما يعلم عنده من الغناء والكفاية، وربما أحب الرجل، وعز عليه، فأقصاه وأهلكه، مخافة ضرره؛ كالذي تلدغه الحية في إصبعه فيقطعها، ويتبرأ منها مخافة أن يسر سمها إلى بدنه. فرضي الأسد بقول دمنة.
ثم علم بعد ذلك بكذبه وغدره وفجوره فقتله شر قتلةٍ.
تعليقات: 0
إرسال تعليق